28‏/05‏/2012

الولد والنشيد وفلسطين


كلما جاء الصباح امتصني جرس بعيد 

تطلع الشمس القديمة على الكوكب القديم  على الوطن الجريح ، المليء بأرواح مزقها القهر ، هذا الصباح كئيب ... الفراشات اتخذت عهداً أن لا تطير ، والسنونو على غير عادته السنوية امتنع عن المجيء ، وصوت العصافير مفقود  .

في هذه اللحظات التي تمر كحز الموس – الآن -  إذ تُسْمع الطائرة الزنانة ، من بعيد ، فتخيف النوارس والأطفال ، صوتها يطغى على النشيد الوطني في المدرسة ، يرفع الأولاد أعينهم لتبصر الطائرة ، فتنهرهم نظرة المعلم ، فيعودوا للنشيد ...

- المكان غزة -

هذا الصباح القريب من البحر والعطش ، صباح مليء بالعرق .. عرق الأطفال المملح بالرمال ، عرق الطفل الهارب من حصة النحو والصرف ، من كراسة الإملاء . وعصا المعلم . 

الولد المحاصر بالأغنية والنشيد وتعويذة أمه ، المحاصر برمال الوطن ، بالعرق ينز من يديه المتورمتين ، بالحلم يعن في رأسه ، برائحة وجبة طعام كاملة  .

استذكر حلم الأمس : طائرته الورقية تصل برتقال يافا فيطلق ضحكته فتشق المدى   . 
استذكر ما قاله متعهد الحفريات : اعمل بجد أيها المناضل الصغير، تعطيك فلسطين أكثر و أكثر . 

يا أيها الولد الموزَّعُ بين نافذتينِ

لا تتبادلان رسائلي

قاومْ

إنَّ التشابه للرمال... وأنتَ للأزرق

الطفل المحاصر بالحلم ، ونقص الأوكسجين ، والزعتر البلدي والمنزل . يبحث عن نقطة ضوء آخر هذا النفق الطويل ، النفق المنهار ذاته الذي تناقلت أخباره وكالات الأنباء ، وشاشات الحواسيب ، ولايكات الفيسبوك !!
وأحمدُ يفرك الساعات في الخندقْ

ونقطة الضوء هذه لا تأتي ، ويستمر بالحفر فيما يستمر الأوكسجين بالتناقص ، يتناقص الأكسجين وتتآمر معه بطارية الكشاف فيبهت الضوء شيئاً فشيئاً ...


في الصباح نهره المعلم عن النظر إلى الطائرة الزنـّانة ، نظر إليها بخوف طفل صغير بات يعلم أنّ صوتها نذير شؤم ! ، واتهم بخيانة النشيد !!



يا أيها المتفرجون! تناثروا في الصمت
وابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوهُ فيكم
حنطة ويدين عاريتين
وابتعدوا قليلاً عنه كي يتلو وصيَّتَهُ
على الموتى إذا ماتوا
وكي يرمي ملامحَهُ
على الأحياء إن عاشوا!



فيما يستمر بالحفر ، يستمر تورم اليدين ، تتزايد قطرات العرق انهماراً ، ويستمر في غناء النشيد الذي اتهم صباحاً بخيانته !!

ينضم إلى حفلة المتآمرين جوعه ... والأوكسجين يتناقص أكثر وأكثر . يستذكر فطور الصباح ، وأمه التي تظاهرت بالشبع كي يستمر بتناول ما تبقى من زيت وزعتر وشاي قليل السكر . 

وعد أمه في الصباح بقليل من النقود سيعطيه إياها متعهد حفر الأنفاق ... فأضاع جسده  تحت الرمال . 






مساءً قالت المذيعة ذات الشفتين الورديتين : مقتل صبي فلسطيني إثر انهيار نفق في رفح .
لم تقل : اليوم امتنعت الفراشات عن ركوب الريح ، والنوارس خافت من الطائرات !!


المذيعة لم تقل مثلاً : الولد الذي وعد أمه هذا الصباح بقليل من النقود ضاع تحت الرمال ... ولم تتحدث عن اختفاء طائرة ورقية من سماء المدينة !!




بعد يوم أو يومين ، سنة أو سنتين          ::::::


النشيد الوطني : ما زال مستمراً ، وينقصه صوت ولد سرق طفولته تجار الحروب  .
كرسيه المدرسي : لا تجلسوا على أحلامه .
رفاق المدرسة : هو معنا وهو البعيد
هو بيننا وهو القريب .



حائط البيت الخارجي : المجد والخلود لك ... أصدقاء الشهيد . 
حائط المنزل الداخلي : قفز من حضن والدته إلى البوستر ، أنيقاً طاهراً كعريس . 
أمه التي تعد أضلاعه في الصباح ، ما زالت تنتظر عودته !!


شاهد القبر : هنا يرقد بسلام الولد الذي اتهم ذات صباح بخيانة النشيد . فاحتضنته فلسطين . 


وأَعُدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعداً
وأبحثُ عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كُلَّها زبداً...
وأحمدُ يفرك الساعات في الخندقْ
لم تأت أُغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق
هو أحمد الكَوَنيُّ في هذا الصفيح الضيِّق
المتمزِّقْ الحالمْ
وهو الرصاص البرتقاليُّ.. البنفسجه الرصاصية
وهو اندلاعُ ظهيرة حاسمْ
في يوم حريّه
يا ايها الولد المكَّرس للندى
قاوِمْ!
يا أيها البلد – المسَدَّس في دمي
قاوِمْ!
الآن أكمل فيك أُغْنيتِي
وأذهب في حصاركْ
والآن أكمل فيك أسئلتي
وأُولد من غبارك
فاذهبْ الى قلبي تجد شعبي
شعوباً في انفجارك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


*   المكان:  - غزة - 

الكلمات باللون الأحمر من قصيدة أحمد العربي - أحمد الزعتر
محمود درويش






ليست هناك تعليقات: