كان ليغدو يوماً
عادياً آخر ، لولا ما آلت إليه الأمور وتسارع الأحداث على
غير ما كان متوقعا له .
كنت قد التقيتها
في مشتل الحدائق مكان وجودي الدائم ، حيث رائحة الأزهار والرطوبة تطغى على كل شيء ، كثيراً
ما حلمت بأني اختنق من رائحة هذا المكان الذي يغص بجميع أنواع الأزهار ومتطلباتها من
أتربة وأسمدة ، حتى بتُ محاصراً بجدار ما ، يصعب
على أحلامي تجاوزه ، غريب أن تشعر بعدوٍ من الأزهار ، تحس أن الأزهار تتكلم معك ، كثيراً
ما تخيلتها تخبرني أنها ذاهبة إلى حيث العاشقين ، إلى حيث الحب بعيداً عن هذا السجن
المقيت ، وأني سأعد أيامي حتى يتلون شعري بالأبيض وسط هذا الحصار . أكثر ما يصيبني بالحزن
ذكرى الراحلين أصحاب هذا المشتل الذي
تعتلي واجهته الأمامية لافتة قديمة خَطَ عليها والدي ذات يوم " أزهار الربيع
" ....
سألتني عن أنواع
الزهور التي تصلح لشرفة بيتها ، أخبرتني بحبها الكبير للأزهار ، وفرحها عند اقتناء
مجموعة جديدة ، تذكرت كعادتي نصيحة والدي بأن الكلام مع النساء الغريبات قد يقودني ذات يوم إلى الهاوية ، وأن عليَّ الحذر من حبائلهن حتى لا أجد نفسي فريسة لشهواتي .
فلتذهب
نصائحك إلى الجحيم يا والدي ، هاأنا أناهز الثلاثين من العمر دون حصولي ولو على كلمة
" أحبك " ، وما سيضيرك في قبرك لو افترستني جميع النساء ، أنا مستعد لكل
ما بإمكانه أن يخلصني من هذا الإرث العقيم الثقيل ، أريد أن أحيا كما ينبغي لمن هو
في مثل عمري ، أريد أن أزين باقة وردٍ لفتاة تخصني ولا تخص الحساب المصرفي لهذا المكان
، أريد أن ألاحق الفتيات العذارى ، والعوانس وحتى المتزوجات ، أريد لهذا الإرث الأخلاقي
أن يبلا أن ينتهي أن يذهب إلى حيث مكانه الصحيح ... زمانك يا والدي الطيب .
صحوت من سرحاني على
صوتها ، المرأة ذات الوجه الحزين والعينين الذابلتين ، هل تنصحني بأزهار معينةً حيث بإمكانها احتمال هذا المناخ القاسي ؟ ومن سيفعل غيري ، فأنا الخبير بالأزهار ، وبما يليق بشرفتك
يا سيدتي وما يليق بلون عينيكِ إذا تطلب الأمر ، فأخذت هي بالضحك بينما ذكورتي أخذت تحرضني على الانقضاض وعدم السماح
لهذه الطريدة السهلة من الافلات من شِباكي .
ما لَبِثَت
أن صارحتني بمقتها لزوجها الذي لا يهمه سوى المال وعدم الاكتراث لمشاعر غيره ، فكانت
صيداً سهلاً لذكورتي .
حدثتني كثيراً عن
ذلك الزوج الذي يفني ساعات نهاره متنقلاً بين تجارته الزاهرة ، وأخبرتني عن رحلاته
التي لا تنتهي نحو الشمال بحثاً عن النساء الغريبات ، وأنها باتت تتقزز منه ، وأن كل
ما يعنيها الآن ما يمنحها من أوراق نقدية . فأحسست أن هذا الصيد الثمين هو حظ المبتدئين
فانتشيت لهذا التحليل الغريب الذي راودني .
انفردنا بعد ذلك
كثيراً في كوخ جبلي بعيد عن مركز المدينة وعيون الناس ، بالغنا بصنع اللذة والاستمتاع
بجسدينا بكل ما عرف الشيطان سبلاً لذلك . هذه هي إذن اللذة المنتظرة ، أكثر ما كان
يؤرقني في منفاي الاختياري " مشتل الأزهار " ، دائماً ما تساءلت كيف ستكون
متعة الالتقاء بجسد الأنثى ، وكثيراً ما رأيتني امسد شعرها كما كنت أتخيلني أفعل في
سرحاني الدائم ، طالما راودتني الأفكار بامرأة خرجت لتوها من النهر ولا منقذ لها سواي أنا فارس
هذا الزمان الوحيد ، أحتضن ذلك البلل الناعم الذي يغطي جسدها الغض ، فيصعد دمي
نبيذاً في الفضاء ، ويضيء المدى الحقول .
في ذلك اليوم شديد
المطر والبرودة هاتفتني فالتقينا في ذات الكوخ الرابض على قمة جبل الريف الغربي ، حيث
اشجار الصنوبر تبتلع المكان ، احتضنتي في الداخل
فبادلتها العناق ، أخبرتني أن أجمل أيامها تلك التي تمضيها بين يدي ، وأن هذا الكوخ
أجمل من بيتها الكبير ، شكوتُ لها فقري وقلة حيلتي ، تحسست ساعدي وقالت من له هذا الجسد
بإمكانه أن يغتصب العالم . ضحكت كثيراً وقلت لها : في خيالكِ فقط .
غفونا على صوت انهمار
المطر ، وهسيس قبلاتنا ، وفي المساء اضفت كمية من الحطب لموقد النار ، فصبغت المكان
برائحة صمغ الصنوبر الطازج ، فبات للمساء رائحة
تليق بلقائنا ونزقنا اللذيذ ، اختلطت الرائحة بصوت تلك المطربة التي كان صوتها يخرج مصحوباً بالصدى
من المذياع العتيق .
وبدون أي مقدمات
أخذ أحدهم يطرق على الباب الخشبي للكوخ بعصبية مفرطة ، فاهتز جسدي مع اهتزاز المكان ، جمدنا في ذهول
، قالت : إن كان زوجي فسوف يقتلني بمجرد رؤيتي ، فجمدت بمكاني برهة . دعوت الله إن نجاني من هذه
المصيبة أن أصبح إنساناً آخر ، فقط يا الله نجني من محنتي هذه وأعاهدك بالصلاة والصيام وكل ما تطلبه من عبادك الصالحين . أرجوك يا الله ... أرجوك كن معي
، لا تفضحني ، لا تشمت بي الأعداء .
حالما استعدت يقظتي
مما اعتراني من الجمود فإذا بي أمسك بعصاً كبيرة و مع قيامي بفتح الباب فإذ برجلٍ طويل
القامة عاجلته بالاستفهام عن بغيته ، فأخبرني أن سيارتي مضاءة من الداخل ، وأن ذلك
سيفقد البطارية قدرتها على تشغيل المحرك في حال فراغها ، شكرته وانتشيت فرحاً لذلك
الانتصار المدوي على زوجها الغائب في ملذاته .
في اليوم التالي
عزفت عن الإجابة على هاتفها وبينما كنت أنظر لصورة والدي المعلقة على الحائط تلتف حوله أزهار تخفي ألوانها الفترة القديمة التي التقطت فيها ، ضحكة أبي تستفزني ، وأسئلة كثيرة تعنُّ في رأسي ، ترى لو كان من بالباب زوجها
هل كنت سأرديه قتيلاً بتلك العصا ؟ أم هل كانت قصتي لتصبح على ألسن الجميع ؟ تخيلت للحظة
الخبر التالي يملأ الصحف والمجلات " مقتل تاجر كبير على يد زوجته الخائنة وعشيقها " .
تذكرت والدي ونصائحه
بالحذر من النساء ، وأن معظم المشاكل من ورائهن ... على من تقرأ مزاميرك يا والدي
الغالي ، أنا مجرد لص حقير يسطو على فضلات غيره ، ويخاف من رجل سكير تزوج امرأة لتصون
عرضه ، فاجتهدت بتدنيسه بدعوى الحب . أي حب هذا الذي يكون بين طماع صغير وامرأة متزوجة
من ثري حقير .
ترى لو قمت بقتله
هل كانت الحفرة التي سأدفنه بها لتضيق عن الاتساع
لتلك الأفعوانة التي جعلتني قاتلاً للدفاع عن خيانتها .
صحيح أني شريكها
في الرذيلة، لكن القتل كان من أجلها ، وخوفا من زوجها الذي ملأت روحي رهبةً منه ، الحفرة
تتسع ، شيئاً فشيئاً ، وهائنذا أهيل التراب على كلا الجسدين .
لبرهة أدركت أنني
دفنت أحد أكثر أسراري وملذاتي ...، وما كان
قد تبقى من روحي ، وكل مخاوفي من النساء .
أمسكت بذلك الهاتف
الذي أخذ يرن ثانية بيدين واثقتين ، وأنا أعي جيداً كيف يمكن قول " " لا تعودي" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق