28‏/01‏/2009

كيف أضيئت بكين

في الليل الفلسطيني الطويل فقط , و دون ليل كل الشعوب , تختلط المفاهيم عمداً ,,وعن ظهر قصد .
قال الطفل الصغير : لماذا أيها المعلم؟!
قلت للطفل الصغير : لستُ أدري يا ولدي , إنها حكمة الله , وإذا أسغفك الرصاص الطائش فسوف تعرف .
قال الصغير : وكيف أعتمت الدنيا الفلسطينية كل هذه العتمة أيها المعلم ؟!
قلت للطفل الصغير : لست أدري يا ولدي , ولكنني أروي لك حكاية لئلا تنام : (أطرق الطفل الصغير , لا عن يأس, وشفتاه الحلوتان تبتسمان , وسكن إلى جانب ذاكرتي التاريخية , ثم تربّّع أخيراً في كل مساحة قلبي حتى ملأها بالتمام ,,وأصغى بأذنيه الحادتين , فكان وديعاً كالوطن ).
قلت:
في ليلة من ليالي الشتاء , في عام الصعوبات الأولى اشتد عطش الأرض , واشتد مخاض السماء , كان حساب الأيام يسجل على وجه ساعة (بيج بن ) , ربع قرن تقريباً بعد عام 1917 .
في تلك الليلة : أبرقت وأرعدت , وأرعدت وأبرقت , وأبرقت وأرعدت .......
وسقط الليل ...
وسئم الإمبراطور الأعظم ,
سئم زوجته وشعرها الطويل مثل الليل
سئم زوجته وعينيها العميقتين مثل الليل
سئم زوجته وقامتها الطويلة مثل الليل
سئم أنفاق قصره الطويلة مثل الليل
سئم قصائد شعرائه الطويلة مثل الليل
وقرر أن يتمشى في عاصمة ملكه السعيد , أو في ظل من عاصمة ملكه السعيد , كانت العاصمة مظلمة مثل الليل , وكان النفط يتفجر من عتمات الجزيرة العربية وأطراف الهلال الخصيب مثل الليل , كانت حارات العاصمة مظلمة , ,,
عاد إلى قصره العامر بالليل , مغيظاً كئيباً , واستدعى إليه كبير الياوران , وأمره أن يفض له سر عتمة المدينة , فارتبك كبير الياوران ارتباكاً مخلصاً ورسميا , وتمتم بلهجة يكسوها الحرص على مصلحة الرعية والمراعي .
إنها العتمة يا مولاي , العتمة منذ عام الصعاب , وقال الإمبراطور على عادته الحازمة الحاسمة :
أريد أن تضاء المدينة , أو ما تبقى منها فوراً , حتى تبدو كأنها في النهار ( هي في النهار , وليس النهار فيها ).
أريد أن يبكر التلاميذ إلى مدارسهم على ضوء العلم والمعرفة , والعمال إلى المصانع على نور الكهرباء واشعاعات مصابيح الفلوريسنت الأصفر , والفلاحون إلى الحقول على نور المشكاة التي لا هي غربية ولا شرقية , أريد أن يرى كلٌ دربه بوضوح ...
أريد أن تشرق شمس الصحافة على الناس , وأن يكتب كلُ صحفي وأديب سطوره بأمانة صاحب البصر والبصيرة , دافعه الانتماء إلى الأرض , أو ما تبقى من الأرض , وحافزه حرية الوطن أو ما تبقى من حرية الوطن ...
أريد كل شيء على ما يرام يا كبير الياوران , ومد الإمبراطور يده الإمبراطورية إلى خزينة أموال الشعب الغارق في عتمة الفقر والمرض والجوع والوعي :
وخذ هذه الملايين العشرة , ولتشرق الشمس على المدينة بكين ...
في ليل الصبح التالي , استدعى كبير الياوران , صغير الياوران وقال له :
حزن الإمبراطور لعتمة المدينة , وأمر أن تضاء بماله الخاص , فخذ هذه الملايين السبعة , ولتشرق الشمس على المدينة بكين .
وفي ليل الصبح التالي , استدعى صغير الياوران رئيس الوزراء وقال :
إن طويل العمر , الإمبراطور قد سائته عتمة المدينة وأمر بإضاءتها من ماله الخاص , فخذ هذه الملايين الأربعة , ولتشرق الشمس على المدينة بكين .
وفي ليل الصبح التالي استدعى رئيس الوزراء , وزيري الكهرباء والداخلية وقال لهما :
إن طويل العمر , يحزنه أن تظل عاصمة ملكه السعيد مظلمة , وقد أمر أن تضاء من ماله الخاص , فخذا هذين المليونين , ولتشرق الشمس على المدينة بكين .
وفي ليل اليوم التالي استدعى الوزيران أمين العاصمة وقالا له :
إن طويل العمر , الإمبراطور , يريد أن تضاء المدينة , فخذا هذه الآلاف العشرة , ولتشرق الشمس على المدينة بكين .
وفي ليل الصبح التالي استدعى , أمين العاصمة مسؤول الكهرباء والماء قائلاً :
خذ هذه , ودسها في يده , ولتشرق الشمس على المدينة بكين .
في ليل الصبح التالي استدعى مسؤول الماء والكهرباء , كبير العسس , وقائد الشرطة , وأميرال المباحث , ومغاوير الوحدات الخاصة , وقرأ عليهم عليهم لائحة الأوامر كما يلي :
ليشعل كل محروم قنديلاً كبيراً أمام كوخه .
ليشعل كل محزون شمعة كبيرة على باب بيته .
لتحرق كل أرملةٍ سراجاً في زقاق دارها .
ليضيء كلُ أبٍ فاقد لمبةً يحملها أثناء تجواله .
لتشعل كلُ أمٍ ثاكل شعلةً تصحبها في زيارتها لقبر ابنها .
ولتشرق الشمس على المدينة بكين ..
............................وهكذا أضيئت بكين .
قال الطفل الصغير : وهل أضيئت كل الشوارع والحواري والأزقة , أيها المعلم .
قلت للطفل الصغير : نعم يا ولدي , حفظك اللـه .
قال الطفل الصغير : وماذا بعد أيها المعلم ...
قلت للطفل الصغير : صار لصاحب الدار , دوراً , ولصاحب السيارة شركة سيارات , ولصاحب راديو الترانزستور شركة استيراد تلفزيونات وأقمار صناعية للاتصالات السلكية واللاسلكية ...
قال الطفل الصغير : والشحاد؟!
قلت للطفل الصغير : صار شحاداً مضاءً !
قال الطفل الصغير : والمخيم !
قلت للطفل الصغير : ظلَ مخيماً في الضوء!
قال الطفل الصغير : وماذا عن دواخل النفوس والبيوت ؟
قلت للطفل الصغير : ظلت معتمة .
قال الطفل الصغير : ولماذا أيها المعلم ؟
قلت للطفل الصغير : لأن كل نفط الدنيا , لا يضيء ضميراً معتماً يا ولدي ...
وبكى الطفل الصغير بصمت , وبكى الوطن بصمت . وبكيت بصمت .

في نوبة البكاء , لحظت الجنود وهم يكفون عن تزييت جنازير الدبابات , وقرأت على يد الطفل اليمنى جملةً قصيرة , مكتوبة بلغة واضحة ... مكتوبة بلغة واضحة جداً .
عبد اللطيف عقل
"" رسالة النجاح "" العدد 20
آذار (1984) .

هناك تعليقان (2):

محمد العيسة يقول...

بت أخشى أن يكون مصير أموال إعادة إعمار القطاع نفس مصير أموال ذلك الإمبراطور الصيني !! طبعاً في حال تم اعتماد السلطة لإعمار القطاع.

Unknown يقول...

لا تخشى ...فهو كذلك